6 ملاحظات على هامش الفتنة

أحمد الصاوى رئيس تحرير «صوت الأزهر» يكتب: هل يحتاج المجتمع لإبراهيم عيسى؟

أحمد الصاوى
أحمد الصاوى

هذه السطور ليست حديثاً فى الدين ولا تستغرق فى جلب الأسانيد لتأييد رأى وتحقير آخر، ربما تعتبرها ملاحظات عامة حول ممارسة إعلامية ليست أول ما يثير الجدل فى مسيرة الإعلامى الكبير حقاً إبراهيم عيسى. أحد أهم الموهوبين القلائل فى تاريخ الصحافة والإعلام المصرى، مهما اختلفنا معه أو اتفقنا، واعتبر البعض الكثير أنه يستثمر موهبته فى غير ما ينفع الناس ويفيدهم، فيستغلها بتطرف فى معارك لا تخدم غير التطرف ولا يفيد إلا فى تهديد هوية المجتمع المصرى الوسطية دينياً بلا إفراط ولا تفريط.

لا أشكك فى سلامة اعتقاد الأستاذ الكبير، ولا يجوز لأحد أن يفعل، استناداً للفهم الأزهرى الصحيح للشريعة الإسلامية والذى عبر عنه بيان الأزهر الشريف للتجديد بنصه « «التكفير فتنةٌ ابتليت بها المجتمعات قديماً وحديثاً، ولا يقول به إلا متجرِّئٌ على شرع الله تعالى أو جاهلٌ بتعاليمه، ولقد بيَّنت نصوص الشرع أن رَمْىَ الغير بالكفر قد يرتدُّ على قائله فيبوء بإثمه، والتكفير حكم على الضمائر يختص به الله- سبحانه وتعالى- دون غيره؛ فإذا قال الشخصُ عبارةً تحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهاً وتحتمل عدم التكفير من وجه واحد فلا يُرمَى بالكفر لشبهة الاحتمال؛ اعتداداً بقاعدة: ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين».

لكننى أشكك فى المنطق الذى بنى عليه الأستاذ عيسى مقدمته للحلقة المثيرة للجدل، والتى للغرابة لم تكن عن الإسراء والمعارج بل كانت عن هوية مصر، والحقيقة لم أفهم حتى الآن الحالة التى تتلبس بعض «المثقفين» عند الحديث عن الهوية واعتبار الإسلام متناقضاً معها، أو عبئاً عليها، وحالة الخلط بين الخطاب الدينى المتشدد والخطاب الدينى الوسطى والتدين التقليدى للغالبية العظمى من المصريين، فيخرج معتقداً أنه يواجه المتشددين، فيتنمط بأنماطهم ولا يكترث فى خطابه بإصابة الوسطيين والمتدينين العاديين فى كل شبر من البلاد.

لكن تركيزاً على تلك الممارسة تحديداً وبعيداً عن مصادر ثبوت «المعراج» التى لا أشك فيها، ولا أسعى لإثباتها كونى غير متخصص أولاً، ولا أشعر بثمة تهديد فى إيمانى واعتقادى مما قيل ثانياً، أسوق هذه الملاحظات الست لعلها تكون مفيدة فى نقاش حقيقى حول ما جرى.

 

1- بدأ الإعلامى إبراهيم عيسى حديثه بإشادة بدعوة شيخ الأزهر لإحياء فتوى «الكد والسعاية»، منطلقاً منها للزعم بأن رجال الدين يخفون عن الناس نصف الدين طالما أن هذه الفتوى بحسب قوله كانت مختفية.

وهنا يبدو التوظيف المقصود بقدر كبير من التجنى لتحقيق هدف محدد سلفاً، أو التعبير عن قناعة مسبقة، حيث افترض الأستاذ عيسى أن رجال الدين أخفوا هذه الفتوى عن الناس، رغم أنه وهو الذى يقدم نفسه باعتباره مهتماً بالتراث يجدها بسهولة فى أغلب كتب الفقه، وفى دراسات وكتب وأحاديث مشايخ الأزهر الشريف وعلمائه منذ سنوات طوال، وليس معنى دعوة شيخ الأزهر لإعادة إحيائها أنها كانت مخفية أو مدفونة فى سياق العلوم الشرعية والفقهية، وإنما يعنى أنه لم يكن معمولاً بها، وما دعوة الإمام الأكبر إلا مطالبة بإنزالها منزل التطبيق.

وقد هرمنا نشرح للـ«متثاقفين» بحسب تعبير الأستاذ عيسى نفسه، أن الأزهر ورجال الدين دورهم البيان، لكن وضع هذا البيان موضع التطبيق وترجمته فى تشريعات وقوانين ولوائح وحقوق واضحة، مهمة هيئات وجهات آخرى، وعلى هذا فلا يجوز القول بأى حال أن رجال الدين أخفوا هذه الفتوى أو الزعم بتعميم فج لا يمت لدقة العلم ولا الإعلام على السواء أن رجال الدين أخفوا عن الناس نصف الدين.

 

2- تناول الرجل قصة مقتل الخليفة العادل عمر بن الخطاب وكأنها نافية لقصة عدله المعروفة، واعتبر أن من رددوا مقولة «عدلت فأمنت فنمت يا عمر» خدعوا بها الناس ولم يقولوا أن قائلها كان أحد المحرضين على قتل عمر وأن نجل ابن الخطاب أسرف فى القتل قصاصاً لوالده، وتجاوز عن ذلك الخليفة التالى ذو النوريين عثمان بن عفان.

وفى ذلك أيضاً توظيف خاطىء لدعم فكرة خاطئة يُصر عليها، فلا يوجد منطق ينسف العدل فى حال مقتل العادل، ولا قاعدة تقول أن الأشخاص العادلون لا يُقتلون، على العكس فالرجل العادل والحازم على نحو ما بلغنا عن شخصية الفاروق عمر يثير بعدله حقد من لا يطيقون هذا العدل ولا يقدرون على الحزم.

وواصل أيضاً توظيف المقدمات الخاطئة للوصول إلى أحكام مستقرة عنده، بزعم أن الخليفة عثمان بن عفان تجاوز عن القصاص من عبيد الله بن عمر بن الخطاب لقتله بعضاً من أهل أبى لؤلؤة قاتل عمر دون حق ومنهم الهرمزان وجفينه وبنت أبى لؤلؤة، وعفا عنه متجاوزاً أحكام القصاص، وكأنه – بحسب ما فهمه الناس – تعريضاً واضحاً بالصحابة وكونهم كانوا إن قتل فيهم الشريف تركوه.

وهذا أيضاً ما يجافيه المنطق وصحيح الوقائع كذلك، حيث أن عبيد الله بن عمر تم القبض عليه من عمرو بن العاص وإيداعه السجن حتى ينظر الخليفة الجديد فى أمره، وحين تولى عثمان بن عفان الخلافة، وهو يملك سلطة العفو عن العقوبة كأى حاكم فى زماننا، إلا أنه اجتمع بالمسلمين فى المسجد وقال لهم إن الهرمزان ومن أصابهم عبيد الله لا وارث لهم وبالتالى لا ولى للدم، وقد انتقلت ولاية الدم للمسلمين، وقال لهم عثمان بالمسجد إنه عفا عنه وطرح أمر العفو على المسلمين بالمسجد فيما يشبه الاستفتاء ووافق الحضور.

وبالتالى فمقتل عمر لا ينفى عدله، والعفو عن عبيد الله تم فى اطار صلاحيات ولى الأمر وبعد العرض على المسلمين كما تحكى أغلب المصادر.

والعفو عن العقوبة من المعروف أنه من صلاحيات الحاكم أو رئيس الدولة، ويحدث فى مصر فى أكثر من مناسبة دون أن يثير أى جدل. فلماذا يعتبره الأستاذ عيسى نقيصة فى عثمان بن عفان؟!

 

3-  تحدث الأستاذ إبراهيم عيسى عن عدم حاجة الناس لرجل الدين، قال: هل تحتاج لمن يعلمك كيف تصلى وتزكى وتصوم؟

والحقيقة أن الأستاذ يواصل إطلاق الأحكام المطلقة دون أن يخبرنا بمنطقه أو سنده، فمن الذى يحدد الاحتياج؟ هل هو الأستاذ عيسى والذين معه؟

وإذا كان بعض «المتثاقفين» يقولون بالفعل ومن قبل الأستاذ عيسى، أن المجتمع لا يحتاج إلى رجال الدين، ولا يحتاج من يشرح لهم أوامر الله ونواهيه ولا من يتوسط بينهم وبين الله بحسب قولهم، والحقيقة أننى لا أعرف ما هى القاعدة التى يبنى عليها هؤلاء منطقهم، حتى يمكن أن أكون شاهداً على تطبيقها، كيف إذن يفهم الناس دينهم؟ هل يُتركون لكل داعشى يحشو عقولهم، أم نتركهم لإبراهيم عيسى نفسه وأصدقائه يعلمونهم دينهم؟!

كيف يمكن أن نصدق ذلك ونحن نرى عيسى والذين معه يحاولون إزاحة رجل الدين ولعب دوره فى الوقت، نفسه وكأنهم قادرون على ملء ما سيتركه من فراغ فى المجتمع.

وإذا افترضنا أن المجتمع لا يحتاج لرجل الدين، فهل يحتاج إلى إبراهيم عيسى نفسه؟ بمعنى هل يحتاج المجتمع لإعلامى يتأستذ عليه ويمارس وصايته ويُجهل كل ما لا يتفق مع أفكاره ويشرح للناس دينهم وتاريخهم وأحداثهم الجارية؟   

يشاهد الناس رئيس الجمهورية ونشاطاته على الهواء، فلماذا يحتاجون لإعلاميين يحللون حديث الرئيس ويشرحون لك ما تعرفه من أخبار؟

لماذا يحتاجون معلقين للمبارايات؟ لماذا يحتاجون استديوهات تحليلية للأحداث الرياضية والسياسية والاستيراتيجية والثقافية؟ لماذا يحتاجون نقاد أدب ونقاد سينما ونقاد فنون لتحليل الإبداعات الصادرة فى المجتمع؟

لماذا يحتاجون الفلسفة وأساتذتها؟ لماذا يحتاجون علماء الإجتماع ورواده؟ لماذا يحتاجون عشرات الوظائف والأدوار فى هذا المجتمع؟ نريد فقط أن نعرف القاعدة التى قطع بها الأستاذ عيسى أن المجتمع لا يحتاج لرجال الدين، ربما نستخدمها نفسها فى إقناع الأستاذ عيسى بالإعتزال.

 

4- وفى حديثه عن المعراج وبعيداً عن التخصص فى المسألة - التى لست متخصصاً فيها مثل الأستاذ عيسى – فقد طرح فى جملة واحدة ما يفيد باقتناعه بأن حادث المعراج لم يحدث، دعك من أسلوب الكلام غير اللائق بمقام النبوة، وانظر معى إلى مضمون ما قيل.

يقول الأستاذ عيسى إن هناك كتب تراثية تقول إن المعراج لم يحدث، لم يحقق فى ذلك الإعلامى القدير لم يعرض الرأى والردود عليه، لكنه وبتعميم جرىء اعتبر أن هذه الأقول تمثل نصف الحقيقة فى موضوع المعراج. طالع الإعلامى القدير كتب التراث ووجد أن الروايات التى تتحدث عن صحة المعجزة تماثل عدداً وكماً وأثراً الروايات التى تنفيها – على فرض وجود روايات تنفى ذلك كلية ولا تعتبرها رحلة روحية – وأنها نصف الحقيقة، فهل هى نصف الحقيقة فعلاً، وأين الآيات البينات التى ذكرت المعارج وسدرة المنتهى؟ فى أى نصف منهما.

وإذا كانت تلك الروايات – بفرض وجودها – تمثل نصف الحقيقة ويعيب الأستاذ عيسى على المشايخ أنهم يتبنون نصف الحقيقة ويتركون النصف الآخر، أفلم يفعل الشىء نفسه الأستاذ عيسى بإعلان أنه يتبنى النصف الذى يشكك وينحاز إليه ويروج له؟!

 

5- عطفاً على النقطة السابقة، هل كل حدث مختلف عليه أو توجد بعض الروايات مهما كان حجمها تناقض المستقر عنه من روايات تصلح للتناول الإعلامى بهذا الشكل والتبنى بهذا المنطق تحت لافتة حرية الرأى والفكر والتعبير؟

الأصل أن حرية الفكر والرأى مكفولة.. لكننا لا نتعامل مع كتابات سيد قطب مثلاً باعتبارها حرية رأى وفكر ورأى، الأستاذ عيسى وأصدقاءه من «المتثاقفين» لا يتعاملون مع ما يقوله متطرفون آخرون من خطباء ودعاة السوشيال ميديا باعتباره رأى وفكر وحرية، وعندما مس أحد مشايخ الأوقاف مشاعر المسيحيين لم يعتبر «المتثاقفون» ذلك حرية رأى وفكر ولم يتضامنوا معه بل شاركوا فى حملة – شاركت فيها – لوقف برنامجه وإلزامه بالاعتذار.

كذلك وإن كان هناك روايات تنكر المعراج وعرضها فى الإعلام يأتى انتصاراً لحرية الرأى والتعبير، فهناك روايات تنفى أننا انتصرنا فى حرب أكتوبر، هل يليق بالنظام الإعلامى عرضها وتبنيها وترويجها انتصاراً لحرية الرأى والتعبير؟!

هناك روايات تخالف التصور الإسلامى والمسيحى عن معجزة ميلاد السيد المسيح وشخصية الصديقة مريم البتول عليهما السلام، هل تقبل قناة «القاهرة والناس» وغيرها من القنوات المصرية بعرض تلك الروايات وتبنيها وترويجها انتصاراً لحرية الرأى والتعبير؟!

 

6- تحدثت فى الأعلى عن سبب عدم اعتبار مؤلفات سيد قطب وغيرها من الكتب المؤسسة للتطرف كأفكار تسرى عليها قواعد حرية الرأى والفكر والتعبير، والحقيقة أننى مقتنع مثلما يقتنع «المتثاقفون» أنها أفكار تؤدى إلى التطرف، وهذا سبب كاف لمواجهتها وحصارها وتجريمها، لكن من قال إن ما يطرحه الأستاذ عيسى لا يؤدى إلى التطرف؟!

الحقيقة أن النتيجة الوحيدة لهذه الطروحات بتلك الأساليب غير اللائقة تحت أى معيار دينى أو إعلامى – راجع من فضلك الأكواد الإعلامية – تؤدى أيضاً إلى التطرف، فمن جانب قد تدفع بشاب إلى التطرف رفضاً للدين وهذا نوع من التطرف، لكنها أيضاً تدفع شباب للتطرف دينياً وتسهل مهمة تجنيدهم فى التنظيمات الإرهابية بالزعم أن الدين مهدد وفى خطر ويتم التطاول عليه فى الإعلام وتحت رعاية رسمية أو شبه رسمية، أو إذا كان مطلوب منه أن يختار بين «نصف حقيقة» يقول بها ابن تيمية.. و«نصف حقيقة» يقول بها ابن عيسى.. فلمن تعتقد أن ينحاز؟!